لماذا خافت أوروبا والعثمانيون من مشروع محمد علي؟ وهل هذا ما تسبب فى استعمار مصر؟

تاريخ

في النصف الأول من القرن التاسع عشر، لم تكن مصر مجرد ولاية تابعة للدولة العثمانية ، بل كانت مشروع دولة إمبراطورية حديثة بقيادة رجل طموح اسمه محمد علي باشا. هذا الرجل لم يرضَ بموقعه كوالي، بل كان يرى في مصر نواة لإمبراطورية مستقلة وقوية تمتد على حساب – الدولة العثمانية. هذا الطموح غير المسبوق، وهذا المشروع النهضوي المتكامل، أثار فزعًا غير مسبوق في عواصم أوروبا وفي إسطنبول على حد سواء، حتى قررت تلك القوى التحالف ضده لإجهاض مشروعه قبل أن يشتد عوده.

محمد علي: الطموح الذي أرعب الإمبراطوريات

تولى محمد علي حكم مصر عام 1805، لكنه لم يكن كمن سبقه من الولاة العثمانيين. أدرك أن النهضة تحتاج إلى جيش قوي، واقتصاد مستقل، وإدارة فعالة. فبدأ بإصلاحات عميقة في الزراعة والصناعة والتعليم، وبنى جيشًا نظاميًا قويًا على الطريقة الأوروبية، من المصريين لا المماليك أو الأتراك، وهو ما أزعج العثمانيين ولفت أنظار أوروبا

لماذا هاجم محمد علي العثمانيين؟

رأى محمد علي أن الدولة العثمانية ضعيفة وعاجزة عن حماية مصالحه، خصوصًا بعد أن استخدمه السلطان لقمع الثورات في شبه الجزيرة العربية واليونان ثم تخلى عنه. فقرر أن ينقلب على الباب العالي، لا بغرض التمرد فقط، بل لتحقيق حلمه بإنشاء إمبراطورية عربية – إسلامية تقودها مصر

بدأ محمد علي بإرسال جيشه بقيادة ابنه إبراهيم باشا نحو الشام، وحقق انتصارات مذهلة على الجيوش العثمانية، حتى وصل إلى أبواب إسطنبول نفسها. ولم يكن بينه وبين إسقاط الدولة العثمانية سوى خطوة واحدة، لولا تدخل أوروبا

حدود توسعات محمد علي: أين وصلت “إمبراطورية مصر”؟

في أوج قوته، امتدت سيطرة محمد علي على:

  • مصر والسودان بالكامل
  • الحجاز (مكة والمدينة)
  • نجد وأجزاء من شبه الجزيرة العربية
  • الشام: فلسطين، لبنان، سوريا
  • الأناضول (جنوب تركيا حاليًا)، بعد الانتصارات المتقدمة
  • اليونان (لفترة أثناء التدخل في حرب الاستقلال اليونانية)

هذه التوسعات وضعت محمد علي في موقع من ينافس فعليًا على زعامة العالم الإسلامي، ويهدد النفوذ الأوروبي في الشرق.

لماذا خافت أوروبا من محمد علي؟

رأت أوروبا في محمد علي مشروعًا خطرًا لأسباب كثيرة:

  1. يبني جيشًا صناعيًا قويًا يُهدد التوازن الإقليمي
  2. يسيطر على طرق التجارة المهمة، خاصة طريق الهند
  3. يطمح لوحدة عربية – إسلامية تقودها مصر
  4. يعيد صياغة فكرة الدولة الإسلامية بعيدًا عن العثمانيين
  5. إنه ليس أداة في يدهم بل يسعى للاستقلال والنهوض


ومن هنا، تدخلت بريطانيا والنمسا وروسيا وفرنسا وألمانيا في معاهدة لندن عام 1840، والتي فرضت على محمد علي الانسحاب من الشام، والاعتراف بسيادة الدولة العثمانية، مقابل توريث حكم مصر لأسرته فقط. وكان ذلك ضربة قاصمة لطموحاته.

العثمانيون والإنجليز: خصمان تحالفا ضد مصر

الغريب أن العثمانيين، رغم ضعفهم، قبلوا بمساعدة الأوروبيين ضد محمد علي، لأنه كان أقوى منهم بالفعل، وكانوا يعلمون أنه إذا تُرك، سيسقطهم. أما الإنجليز، فقد رأوا في مصر القوية تهديدًا مباشرًا لطريقهم نحو الهند، ومستقبل نفوذهم في الشرق. وهكذا، اتفقت مصالح العثمانيين والإنجليز على تحجيم مصر، حتى لا تقود العالم العربي والإسلامي، ولا تصبح قوة إقليمية تنافسهم

من تحجيم محمد علي إلى الاحتلال البريطاني

بعد إجهاض مشروع محمد علي، دخلت مصر مرحلة التراجع، خصوصًا بعد حكم إسماعيل الذي أغرق البلاد في الديون. ولما ضعفت الدولة، تدخلت بريطانيا مباشرة واحتلت مصر عام 1882.

لكن الحقيقة التي لا تُذكر كثيرًا، أن الاحتلال البريطاني لم يكن وليد ضعف اللحظة، بل ثمرة خوف طويل بدأ منذ أيام محمد علي. فمشروع النهضة الذي أراد لمصر أن تكون دولة إمبراطورية، كان كفيلًا بإشعال كل أجراس الخطر في أوروبا، التي قررت أن “مصر القوية” خطر لا يمكن السماح له بالنمو

تدخل محمد علي في حرب الاستقلال اليونانية هو لحظة فارقة أثارت فزعًا خاصًا في أوروبا , الخوف الأوروبي من “الوالي الإمبراطور”

عندما طلب السلطان العثماني من محمد علي مساعدته لقمع ثورة الاستقلال في اليونان (1824)، أرسل محمد علي أسطولًا ضخمًا بقيادة ابنه إبراهيم باشا، واستطاع أن يحقق انتصارات ميدانية كبرى، وسيطر على معظم الأراضي اليونانية بما فيها كريت، ومورة (البيلوبونيز)، وبدأ في إدارة الأراضي اليونانية كأنها جزء من دولته، لا مجرد حملة نيابة عن العثمانيين.

وهنا بدأ يظهر نوع جديد من الخوف الأوروبي:

الخوف من أن يصبح محمد علي حاكمًا بحريًا، يمتلك أسطولًا ضخمًا في المتوسط يهدد مصالحهم التجارية.

  1. الخوف على مستقبل اليونان المسيحية، خاصة من جانب روسيا وإنجلترا، الذين لم يتحملوا رؤية جيش مسلم قوي يقمع “ثورة مسيحية أوروبية
  2. الخوف من نموذج محمد علي نفسه، الذي استغل شرعية الباب العالي لبناء نفوذ مستقل، وكاد يتحول إلى إمبراطور فعلي على حساب الدولة العثمانية.

وقد بلغ الخوف ذروته عندما اجتمعت إنجلترا وفرنسا وروسيا وشنّت حملة بحرية مشتركة أدت إلى تدمير الأسطول المصري في معركة نافارين 1827، والتي كانت أول ضربة فعلية لمشروع محمد علي في المتوسط

هذه المعركة كانت بمثابة “رسالة” أوروبية واضحة , لا يُسمح لمصر أن تتحول إلى قوة بحرية أو إمبراطورية إسلامية تُنافس أوروبا في البحر المتوسط.

أولًا: هل خافت بريطانيا من توسع محمد علي في شبه الجزيرة العربية؟

نعم، خافت بشدة
محمد علي بعد حملته على الحجاز (مكة والمدينة) ونجد ، سيطر على جزء كبير من شبه الجزيرة العربية ، خاصة بعد القضاء على الدولة السعودية الأولى (1818)
هذا التوسع أثار قلق بريطانيا لأسباب:

بناء قوة موحدة في الجزيرة تحت قيادة محمد علي، يهدد خطة بريطانيا لتقسيم النفوذ في المنطقة.

قربه من الخليج العربي، وهو شريان استراتيجي لطريق التجارة إلى الهند.

احتمال سيطرة محمد علي على الموانئ الخليجية مثل مسقط والبحرين، مما يعني تهديدًا مباشرًا للمصالح البريطانية.

ثانيًا: هل تدخلت بريطانيا لمنع محمد علي من التوسع في شبه الجزيرة العربيه؟

نعم، ولكن بأسلوبها المعروف: التحالفات والضغط غير المباشر، وليس الحرب المباشرة

منعت محمد علي من التقدم نحو عمان ومسقط بحكم نفوذها القوي هناك.

بعد قضاء محمد علي على الدولة السعودية الأولى، دعم البريطانيون ظهور الدولة السعودية الثانية لضرب نفوذه.

عقدت بريطانيا سلسلة معاهدات حماية مع الإمارات الساحلية على الخليج (مثل أبوظبي، الشارقة، دبي) لمنع تمدد أي قوة إقليمية، سواء محمد علي أو غيره.

ثالثًا: لماذا لم تستعمر بريطانيا الجزيرة العربية بشكل مباشر , والاسباب؟

الطبيعة الصحراوية القاسية جعلت السيطرة المباشرة غير مربحة اقتصاديًا مقارنة بمناطق مثل الهند ومصر.

أهمية الحفاظ على صورة دينية لبريطانيا أمام المسلمين؛ فاحتلال مكة والمدينة مثلًا كان سيشعل غضب المسلمين في مستعمراتهم الكبرى كالهند.

الأسلوب البريطاني في السيطرة كان يعتمد على “النفوذ دون الاحتلال” عبر المعاهدات والحماية، وليس بالضرورة الحكم المباشر.

رابعًا: ما الدول التي استعمرتها بريطانيا فعليًا في شبه الجزيرة العربيه؟

بريطانيا لم تستعمر شبه الجزيرة كليًا، لكنها فرضت نظام حماية ونفوذ على عدة مناطق:

  1. عدن (اليمن الجنوبي): احتلتها رسميًا عام 1839، ثم جعلتها مستعمرة بريطانية حتى 1967.
  2. الساحل المتصالح (الإمارات حاليًا): وقعت معاهدات حماية مع الإمارات من 1820 حتى إعلان الاستقلال عام 1971.
  3. سلطنة عمان: لم تُستعمر رسميًا، لكنها خضعت لنفوذ بريطاني عسكري واقتصادي قوي منذ أوائل القرن 19 حتى منتصف القرن 20.
  4. البحرين: أصبحت تحت “الحماية البريطانية” رسميًا من 1861 حتى استقلالها في 1971.
  5. قطر: أصبحت محمية بريطانية عام 1916 حتى 1971.
  6. الكويت: دخلت تحت الحماية البريطانية عام 1899 حتى 1961.

خامسا: أسباب عدم احتلال بريطانيا للمملكة العربية السعودية

بريطانيا كان لديها سياسة مؤثرة في المنطقة تعتمد على النفوذ غير المباشر، حيث فضلت أن تُبقي على علاقاتها مع عبد العزيز آل سعود من خلال التحالفات السياسية والاتفاقيات بدلًا من فرض حكم مباشر. كان بإمكانها ضمان مصالحها الاستراتيجية في المنطقة من خلال هذه التحالفات بدلاً من الوقوع في مشاكل إدارية وتنظيمية.

المصلحه النفطية في مرحلة لاحقة:
بالرغم من أن اكتشاف النفط في السعودية لم يكن قد حدث بعد في البداية، كان النفط في السعودية أحد الموارد التي جذبت الاهتمام البريطاني لاحقًا. بريطانيا كانت مهتمة بالحفاظ على علاقات ودية مع عبد العزيز آل سعود لضمان حقوق التنقيب عن النفط مع الشركات البريطانية في المملكة دون الحاجة إلى احتلالها بشكل مباشر.

سادسا: نوع المعاهدات التي أبرمتها بريطانيا مع السعودية

بدأت بريطانيا في التفاعل مع المملكة السعودية في المرحلة المبكرة من توحيدها على يد الملك عبد العزيز، حيث أبرمت مع الملك عبد العزيز العديد من المعاهدات التي تضمنت ضمانات متبادلة لتمكين كل طرف من الحفاظ على مصالحه في المنطقة , او التهديد بالاستعمار العسكرى

1. معاهدة 1915 (معاهدة الحماية):

  • الهدف: التأكد من أن المملكة السعودية ستكون في اتفاقية ضمنية مع بريطانيا تُتيح للملكة الحفاظ على استقلالها، في مقابل أن تبقى الهيمنة البريطانية على الخليج العربي.
  • المحتوى:
    • تضمن المعاهدة **التزام عبد العزيز بعدم السماح بوجود القوى الأجنبية غير البريطانية في أراضيه.
    • كما ضمنت حماية مصالح بريطانيا في الخليج، وخاصة في المناطق المجاورة مثل البحرين والكويت.
    • ساعدت هذه المعاهدة في تعزيز الاستقرار البريطاني في المنطقة دون الحاجة للاحتلال المباشر.

2. معاهدة 1927 (اتفاقية بريطانيا-السعودية):

  • المحتوى:
    • كانت هذه المعاهدة أكثر تطورًا، حيث قامت بريطانيا بترسيم حدود المملكة السعودية مع مستعمراتها في الخليج العربي، مثل البحرين، قطر، والكويت.
    • كما كانت تعترف بريطانيا رسميًا بحكومة عبد العزيز، وتمنح المملكة دعمًا عسكريًا واقتصاديًا في مواجهة التهديدات من قوى أخرى في المنطقة مثل الفرنسيين و العثمانيين او المصريين مثل احتلال الجيش المصرى للحجاز ونجد والذى تسبب فى اسقاط الدوله السعوديه الاولى
    • تضمن المعاهدة أن يكون للمملكة حرية التصرف في شؤونها الداخلية، بشرط عدم التصرف في السياسة الخارجية إلا من خلال التنسيق مع بريطانيا.

3. اتفاقية النفط 1933:

  • هذه الاتفاقية كانت محورية في العلاقات بين بريطانيا والسعودية، رغم أنه لم يكن احتلالًا مباشرًا. حيث تم اكتشاف النفط في السعودية، وكان هذا الاكتشاف أحد الأسباب التي جعلت بريطانيا ترغب في الحفاظ على علاقة طيبة مع السعودية.
  • الهدف: ضمان حصول الشركات البريطانية مثل شركة النفط البريطانية على حقوق التنقيب في الأراضي السعودية.
  • المحتوى:
    • لم تكن الاتفاقية تقتصر على الاستثمار النفطي فقط، بل كانت ضمن إطار تحالف استراتيجي لتمكين السعودية من السيطرة على أراضيها في مقابل أن تمنح بريطانيا نفوذًا اقتصاديًا.

4. معاهدة 1930 (بين بريطانيا والسعودية):

بالإضافة إلى ذلك، كانت بريطانيا مستعدة لتقديم الدعم المالي والعسكري للسعودية لضمان الاستقرار في المنطقة.

المحتوى:

معاهدة الحماية البريطانية استمرت بشكل غير رسمي حيث كانت بريطانيا تعترف بسيادة عبد العزيز في معظم أنحاء المملكة، مع الحفاظ على تأثير سياسي في الخارج.

سابعا: فحوى المعاهدات البريطانية السعودية

الاعتراف بحكم عبد العزيز آل سعود:
المعاهدات كان أهم فحواها الاعتراف بسيادة عبد العزيز في السعودية، وتأكيد عدم التدخل في الشؤون الداخلية للملكة.

النفوذ البريطاني غير المباشر:
من خلال هذه المعاهدات، كانت بريطانيا تستطيع الحفاظ على نفوذها السياسي والاقتصادي في المنطقة، مع ضمان عدم وجود أي منافسة من دول أخرى مثل فرنسا أو روسيا.

الأمن والاستقرار:
كانت المعاهدات تضمن أمن واستقرار المملكة من خلال التعاون مع بريطانيا في الأمور العسكرية ضد أي تهديدات داخلية أو خارجية، لكن دون أن تصل إلى حد الاحتلال

بالنهايه : مصر التي خافوا منها

جعلت ما حدث مع محمد علي لم يكن مجرد صراع على النفوذ، بل كان لحظة فارقة في التاريخ العربي والإسلامي، حيث كادت مصر أن تعود لقيادة المنطقة العربيه والاوربيه ، لولا تحالف المصالح الاستعمارية , لقد خافت أوروبا والعثمانيون من مصر القوية القادرة على توحيد العرب والمسلمين، فقرروا أن يبقوها دائمًا “تحت السيطرة”.

وهكذا، كان الخوف من النهضة سببًا للاستعمار، وكان مشروع محمد علي الدليل الأكبر على أن مصر، حين تنهض، يهتز العالم





أضف تعليق